طابع الإستعمار الصهيوني
يتجاوز التوتر في العلاقات بين تركيا واسرائيل في الأونة الأخيرة كونه توتر طبيعي في علاقة أي بلدين. وهذا الوضع ناشئ عن البناء الهيكيلي الذي تتمتع به اسرائيل وموضعها على الساحة الدولية حيث تشكل موضعا يوصف بـأنّه “مركزي و خفي”.
وفي الوقت عينه فان تركيا تشكل بعداً مهماً في القضية. حيث تعتبر من أوائل الدول التي سابقت الى الإعتراف بدولة اسرائيل، من بين الدول الإسلامية وكانت دوماً تساند اسرائيل قبل التوتر الأخير للعلاقات. حتى في الوقت الذي تستمر فيه العلاقات حالياً بالتوتر بين الطرفين على المستوى الرسمي فان محادثات سرية تستمر على صعيد خفي غير رسمي، ما يدفع للتفكير بتعامل تركيا مع هذه العلاقة بانفصم حاد.
وتلك القرارات التي اتخذتها تركيا والذي عظّم من شأنها في الأونة الأخيرة، تمسّ بشكل رئيسي التوازن والثقة بالنفس لدى تركيا، اضافة إلى كسر أسطورة الحصانة واستحالة المساس باسرائيل فيما تقوم به من مخالفات على الصعيد الدولي.
لقد كانت تركيا ومازالت حتى اليوم تمثل سياستها الخارجية الواجهة المنتقاة بعناية للسياسة التركية. وكانت هذه النخبة التي تتولى السياسة الخارجية التركية إلى زمن قريب تلعب دور الوجه المناهض للمجتمع والمتعامل مع الغرب.
ولا يمكن فهم المكانة التي تحاول اسرائيل احتلالها على الساحة الدولية باحمال “معاناة القدس”. لان مشكلة اسرائيل هي مشكلة القدس بالنهاية. ولا تخلو بلادنا هذه من الذين يشغلون أنفسهم بمحاولات تشويه صورة الدفاع عن هذه القضية حتى أصبح مجرد الحديث عن القدس تعصباً دينياً منبوذاً ومستهجناً.
هذه الهمجية الاسرائيلية والتي اختلطت بالمعاناة والمهانة ليست غريبة علينا، فقد شهدنا تناقضاتها في تجارب عديدة عبر التاريخ. وترى الحركة الصهونية في أشكال الإستعمار المختلفة تعاني من تناقض كبير تحاول تفاديه، فالإصرار على بعض المعتقدات والادّعاءات كالايمان بشعب الله المختار، يتناقض مع الحقائق التاريخية التي يثبتها حتى اليهود على أنفسهم عبر التاريخ من المهانة بين الأمم، وهذه المفاهيم ينبغي أن تأخذ نصيبها من التمحيص أثناء دراسة الشكل الذي يحمله كل إستعمار صهيوني.
ولا ينبغي تجاهل التأثير المؤلم التي تؤثّر به اسرائيل في علاقاتها على تركيا. فآلية صياغة القرارات في السياسة الخارجية التركية لا يمكن لها أن تتحرك بمعزل عن توجيهات الغرب ومباركة اسرائيل، لدرجة أننا بتنا نتوهم صحة مفهومٍ ما زال سائداً ويؤمن به الكثيرون هنا يتمثل في ضرورة التجاء تركيا لاسرائيل والغرب قبل اتخاذ أي قرارٍ على الصعيد السياسي الخارجي لتركيا، وذلك أدّى إلى ظهور مفهوم “أسرلة تركيا” وما يحمل معه من الألم للمجتمع التركي. فقد فرض بذلك على تركيا القبول بكل ما تقوم به اسرائيل من احتلالٍ للأراضي وسفكٍ لدماء الأبرياء وطردٍ لأصحاب الأرض الأصليين واستبدالهم بمحتلين يظهرون للعالم في ما بعد على أنهم أصحاب الحق. ونستطيع بذلك القول أن الفئة التي تحاول أن تبقي تركيا ذنباً لإسرائيل في دعمها وتولي قضاياها دولياً يحاولون أن يذيقوا تركيا بالمقابل ما ذاقه اليهود عبر التاريخ من الأحداث المؤثرة.. يعني أن اسرائيل تفرض أن نعيش على خلاف ما كانت تعيشه المنطقة برمتها ضد اسرائيل عبر التاريخ وأحداثه الشاهدة، بتنمية هذه العلاقة التبعية لها.
لقد أريد لنا أن نكون كالأجانب في بلادنا، وصل ذلك لدرجة جعلت الجميع مسلمين ونصارى بل حتى اليهود في بلادنا يستغربون من اقامة هذه العلاقات بهذا الشكل مع اسرائيل. وكل ذلك باسم الحداثة والقرب من الغرب واعتماد أنظمته.
هذه العلاقة المؤلمة لها بعد استراتيجيّ أيضاً. فالمفهوم السائد بأن اسرائيل هي التي تدير الولايات المتحدة الأمريكية والتي تقف على خدمتها ودعمها دوماً، يتحول إلى قوة عالمية كبيرة لإسرائيل على الساحة الدولية…علاوة على أن بنية اسرائيل في الأساس هي بنية لا يمكن الإستهانة بها أبداً..
اسرائيل ليست دولة كغيرها من الدول. عدد سكّانها اضافة الى خطوط حدودها ليست محددة كبقية الدول الوطنية في العالم. وتحاول الحركة الصهيونية اضفاء شرعية هذا الغموض في حدودها على الساحة الدولية. واعتمدت تركيا فيما مضى هذا الغموض ضد شعبها حيث اتخذت منه نموذجاً عززت من قوته خصوصاً بعد الإنقلاب الذي حدث باسم ما يدعى الحداثة. حيث اتخذ ذلك المفهوم فيما بعد كخيار استراتيجي لا بد لتركيا عنه.
هذه الأيدولوجية التي تحاول تضليل العالم باخفاء حدود دولتها، لا تشكل خطراً على العرب والفلسطينيين فحسب كما يظن البعض خطئاً، فالعزم على اقامة دولة اسرائيل من الفرات إلى النيل والنظر لذلك على أنه حق منحه الله لليهود، وما يشبه ذلك من التهور التي تقوم به اسرائيل في بسط سيطرتها على البحر الأبيض المتوسط، كل ذلك يشكّل خطراً كبيراً على العالم أجمع.
لقد قامت تركيا في الماضي بخفض المستوى الديبلوماسي الى درجة الكاتب مرات عديدة، لكن وللأسف هذه المرة تقوم تركيا بذلك في الوقت الذي تصر فيه اسرائيل على التمرّد العالمي على مختلف الأصعدة. وذلك قد يكلف تركيا كثيراً. فبالرغم من احتلالها للأراضي والقرصنة البحرية التي تمارسها إلّا أن اسرائيل تتصرف وكأنها صاحبة الحق في مختلف المحافل الدولية. وهي تقوم بذلك بكل وقاحة على مرآى الإنسانية جمعاء.
أضف إلى ذلك أيضاً أنّ التوازنات في الشرق الأوسط في تغير مستمر سواءاُ الداخلية منها والعالمية. واسرائيل تحاول أن تبقي عجلة عدم الاستقرار في البلاد باستمرار. وفي ضوء ذلك يمكن النظر الى إصرار اسرائيل على مواقفها بشأن “مرمرة الزرقاء” بأنه تحدٍ لتركيا أمام العالم كله الذي يقف إمّا متفرجاً أو داعماً لإسرائيل ضد تركيا، كما هو الحال لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذه النقطة بالتحديد، فإنّه وإن كانت الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال مستمرةً في دعم اسرائيل والوقوف إلى جانبها في كل ما تقوم به، إلّا أننا نستطيع القول أن السيل قد يبلغ الزباد بالنسبة للولايات المتحدة، ذلك أنّها وإن لم تتخلّى عن حمل عبئ الدعم لإسرائيل تماماً إلّا أنها لن تكون كسابق عهدها في تقديم مزيد من الدعم لاسرائيل.
كل ذلك يحتّم إستمرارية مواجهة الإستعمار الصهيوني في شتى الميادين إلى حين القضاء على ذلك الإستعمار كلياً أو نهلك دونه.
lgili YazlarArabiyah
Editr emreakif on October 25, 2011