محمد عاكف أرصوي.. شاعر المنفى
في مثل هذا اليوم قبل 76 عاما توفي الشاعر التركي محمد عاكف أرصوي عقب عودته إلى تركيا من المنفى الذي اختاره لنفسه. لقد أجبر الشاعر الوطني على أن يزايل وطنه إلى منفى في دولة أحرى. ولا يزال خلف الحجب والأستار الكثير عن هذا النفي وما تعرض له عاكف من انكسار نفسي وإقصاء فكري.
ورغم أن “النشيد التركي الوطني” لصاحبه محمد عاكف قد أنسانا ذلك النفي، إلا أن قرار عاكف بالنفي التطوعي الذي اختاره لنفسه لم يكن محدودا بتجربته الشخصية أو ما تعرض له من تبدد للأحلام؛ فالظروف التي دفعته إلى حياة المنفى في ذلك الوقت لا تزال حاضرة اليوم أيضا.
وإن تذكر حالة النفي التي عاشها عاكف أو التذكير بها، إنما يتطلب شجاعة في تناول الظروف التي أجبرته على النفي. ومن ثم فإن السيرة الذاتية لمحمد عاكف من زاوية التاريخ الوطني تتأطر بالفدائية التي أبرزها خلال حرب الاستقلال، وما قدمه من دعم وتأييد، وكذلك في أشعاره مثل ملحمة “جناق قلعه”. أما “نشيد الاستقلال” وهو النشيد الوطني التركي حاليا فهو نص شعبي ورسمي في آن واحد أضفى المشروعية على الجمهورية التركية لدى الأوساط الإسلامية.
إن الظروف التي دفعت محمد عاكف إلى حياة المنفى إنما كانت نابعة، قبل أي شيء، من تصوره للعالم ورؤيته له. فقد أصبح عاكف يمثل فكرًا محكوما عليه ومجرما بشكل رسمي، ويمثل حضارة تم انتزاعها من الحياة. فبينما كانت أشعاره تمثل استقلال الوطن، إذا به يساق هو وأفكاره بعد الاستقلال إلى المنفى.
ومن ناحية أخرى، فلعل تعرض محمد عاكف للنفي الفكري كان بمثابة وضعية مؤقتة من أجل الميثاق الوطني الذي أعلنه قادة حرب الاستقلال.وإذا ما كانت فكرة الاتحاد الإسلامي التي نادى بها توفر الاستمرارية للخط التاريخي للأمة، وتجاوز المحلية والوصول للعالمية، فإن حياة المنفى قد استوجبت عليه في هذا الصدد إعادة تعريف هذه الأفكار.
فللوهلة الأولى نجد عاكف قد نفي إلى بلاد بعيدة عن الأرض التي ولد فيها وكبر، وناضل من أجل استقلالها. ولكن، ألم تكن هذه الأرض التي نفي فيها قبل فترة قصيرة جزءًا من وطنه الأم؟ فقد كان شديد القرب والصلة بوطنه الأم؛ فقد كان يعتبر منفاه، وإن انفصل سياسيا، جزءًا من المناخ الحضاري الذي عاش فيه أجداده وتنفسوا من هوائه؛ يسمع فيه الآذان، ويلقى فيه الإخوان على ذات الدين والمرجعية الفكرية.
لقد عاش عاكف تناقضا لا يمكن تحمله بين أنه أصبح “الشاعر القومي” لدولة قومية حديثة هي الجمهورية التركية، بينما كان في الأساس يبذل قصارى جهده من أجل فكرة تتجاوز حدود الدولة القومية إلى الاتحاد الإسلامي. وإذا به وهو يترنم ويمجد الدماء والأرواح التي بذلت من أجل استقلال تركيا كانت أفكاره ومعها جسده يسبقانه نحو حياة المنفى المادي والمعنوي.
ورغم الحتفاء الكبير بذكرى الشاعر التركي محمد عاكف أرصوي، وإعلان هذا العام “عام محمد عاكف”، إلا أن ثمة الكثير من الموضوعات الخاصة بأفكار هذا الشاعر والمفكر التركي ستظل دفينة، تتطلب جرأة وجسارة للتحدث عنها وطرحها للنقاش.
وثمة شاعر آخر يمكننا التحدث عنه ونحن نرصد لنضال الشاعر عاكف من أجل فكرة الوحدة الإسلامية التي تتجاوز حدود الدولة القومية، وهو الشاعر محمد إقبال. فالأول عاكف كان قلبه يخفق ولسانه يلهج من أجل إيقاف انهيار الدولة العثمانية التي تمثل المركز الجغرافي للدولة الإسلامية، بينما كان الآخر إقبال يناضل لرفع صوته في العند التي ترزح تحت نيران الاستعمار في أقصى الشرق من أجل ذات الفكرة وذات الأحلام.
فكان إقبال ينسج أشعاره بألوان مختلفة من أجل التصدي للعرقية والقومية في العالم الإسلامي، وكان عاكف أيضا يعزف على ذات اللحن ضد فكرة القومية في الإسلام.
ولكن في النهاية اضطر كلاهما؛ عاكف وإقبال، إلى القبول والإذعان لشروط الدولة القومية.
دافع عاكف عن إنقاذ آخر قطعة تبقت من الإمبراطورية العثمانية المفقودة، ونادى إقبال بتشكيل دولة من بين أشلاء الإمبراطورية المستعمرة في شرقها الأقصى. عاش عاكف بعدها انكسارة نفسية في بقعة جغرافية بعيدة عن تراب الدولة التي ناضل من أجل قيامها، وقضى الآخر ما تبقى له من عمر يحدوه الأمل في تحقيق أحلامه، ولكن العمر انقضى دون ذلك.
إننا اليوم بحاجة إلى المزيد من الجرأة والجسارة للتعاطي مع أفكار هذين الشاعرين وتجربتيهما على المستويين المحلي والعالمي.
lgili YazlarArabiyah
Editr emreakif on January 1, 2013