وداعًا.. أيها المورسكي الأخير
تفجرت بداخلي مشاعر وعواطف كامنة عندما رأيت من بعيد تلك القرية التي تقع على مقربة من قرطبة إحدى أروع عواصم الحضارة الإسلامية. فقد تجلت في الأفق قلعة من قلاع العصور الوسطى أُنشئت على ضفة النهر فوق تبة شاهقة تشرف على سهل من السهول العامرة. كلا، إنها قلعة من قلاع الأندلس؛ فقد رأيت عليها حُلة أندلسية في أسوارها وأبراجها. فالمرء يدرك من الوهلة الأولى أنها قلعة من قلاع الأندلس المسلمة رغم إضافة عناصر من العصور الوسطى الأسبانية إليها في بعض أرجائها.
وكانت دهشتي الثانية عندما التقيت بهاشم تحت سفح القلعة أثناء مروري بالقرية. وهاشم فنان ومثقف يبدو من هيئته وكأنه قد عاد لتوه من حديقته، إنه هو يمثل كنزًا من بقايا دولة الأندلس. ومظهره الخارجي يمثل حالة من التناقض الواضح وهو يذهب إلى ورشته حاملاً لوحاته وكتبه عن الفن والفنون الإسلامية.
وفي مكان على مسافة عدة دقائق من هاشم، يقع بين الأشجار المحيطة بالقرية، وصلنا إلى بيت “منصور اسكوديرو” المطل على هذه القلعة التي تُذَكِّرك كل يوم بتاريخ الأندلس الرائع. وهناك وجدت أسبانيا الحديثة وقد اكتسبت مفاهيم ومعانٍ مختلفة شأنها في ذلك شأن الأندلس.
وعندما وصلني خبر وفاة الدكتور منصور اسكوديرو أثناء أدائه لصلاة فجر يوم الأحد الماضي توقفت عن استكمال المقالة التي كنت أكتبها، ووجدت أنه لا أفضل من أن أكتب عن ورثة الأندلس وفاءً لجهودهم.
كان بيته الذي يتوسط منطقة خضراء بمثابة مركز لمجموعة من الناس. وكان قد خصص جزءً من منزله مسجدًا لأداء الصلاة، وكان يقوم بجهود وأنشطة مع مسلمي أسبانيا الذين يقطنون منطقته، وكانت أنشطة على المستويين المحلي والدولي.
تحدثنا هناك عن ميراث الأندلس الأسبانية، وعن حالة مسلمي أسبانيا، وبطبيعة الحال عن الموريسكيين. وكانت هذه المجموعة التي تتألف من الأسبان المسلمين تعبر عن الموروث الفني والثقافي للحضارة الإسلامية. وهي مجموعة نشطة حيوية تهتم بالعالم الإسلامي وتوجه رسائلها إلى المجتمع الأسباني …
ومنصور اسكودريو شخصية جديرة بالفخر، فاسمحوا لي أن أحدثكم عن بعض آرائه المتعلقة بميراث الأندلس والمورسكيين.
”عندما بدأ مسيحيو أسبانيا حملتهم التي أسموها (حملة الاسترداد)، نجحت جيوش الكاثوليك في الاستيلاء على الأراضي من المسلمين، وأجبروهم على تغيير دينهم أو ترك أسبانيا. وقد أُطلق اسم المورسكيين على هؤلاء المسلمين الذين غيروا دينهم. ورغم أنهم أعلنوا قبولهم للكاثوليكية إلا أنهم سعوا لحماية تقاليدهم وعاداتهم الموروثة عن الإسلام سرًّا.
والمورسكيون يمثلون حالة مفجعة في تاريخ أسبانيا. فقد عاشوا تحت الضغط والقهر في أسبانيا قرونًا عدة. وتعرضوا لإبادة حقيقية .. ويجوز القول بأنها أفجع إبادة في تاريخ أوروبا، لأن هذا الشعب أضطُر إلى النفي خارج وطنه أو أن يتخلى عن معتقداته وتقاليده وممتلكاته ولغاته وأن يحيا ويتصرف وكأنه شخص كاثوليكي طوال فترة ليست بالقصيرة. وتشتت الشعب بين أنحاء العالم المختلفة حتى أن منهم من ذهب إلى أمريكا وأوروبا. ولقد تأسست مدينة سرايفوا على يد موريسكيو الأندلس.
ولم يكن المبرر لهذه الكراهية مبررا ثقافيا محضا؛ بل كان وراءه مشكلة دينية وسياسية واقتصادية. وثمة نقطة هنا بالغة الأهمية: فصورة الإسلام في أسبانيا تقوم على أن المسلمين أجانب وأغراب عن الأرض الأسبانية. فهم عرب جاءوا إلى أسبانيا واستقروا بها ثماني قرون ثم أُعيدوا إلى حيث أتوا. والإدراك الاجتماعي لدى الشعب الأسباني يحتفظ بفكرة أن المسلمين أجانب وأغراب. ولقد ظلت هذه الفكرة موجودة إلى الآن. غير أنهم ليسوا أجانب بل هم أندلسيون … مثلي. فأنا قد وُلدت في ملاغا. وهاشم وكل أصدقائنا المسلمين أندلسيون. وقولهم لنا الآن أنكم عرب أمر يشبه تمامًا النفي والتهجير فنحن لسنا عربًا، نحن أندلسيون … وهم أيضًا كانوا أسبانيين اعتنقوا الإسلام.
إن أسبانيا بوتقة الثقافات. وليس هناك ما يسمى بالثقافة الأسبانية فهي ثقافة تركبت وتبلورت من ولايات وأنحاء مختلفة.وبالطبع فثقافة الأندلس أو ثقافة الإسلام قد ظلت حية رغم كل ضغوط وممارسات محاكم التفتيش.
وفي قناعتي أننا يمكن أن نُطلق على أنفسنا الذاكرة الجينية. فنحن أحفاد المسلمين الذين بقوا في هذه الأرض، وأخفوا إسلامهم وحافظوا على موروثات الحضارة الإسلامية سرًّا. نحن الآثار الخفية التي تبقت من الأندلس…”
فرحمة الله على الدكتور منصور.. حفيد الحضارة الإسلامية في الأندلس
lgili YazlarArabiyah
Editr emreakif on October 8, 2010