يقولون “مَلِكاً قد رحل”
توفى الملك السعودي “عبدالله بن عبدالعزيز” عن عمر يناهز التسعين عاما. أما الملك سلمان الذى جاء خلفاً له فهو أكثر شباباً.. فى الثمانين من العمر. على جانب آخر، نجد أن عمر أمير قطر “تميم بن حمد” الذى تولى السلطة بإنقلابٍ على والده، لايتجاوز سن أحفادهما. وبالمناسبة، فإن والد أمير قطر “حمد بن خليفة” قد تولى هو الآخر الحكم إثر إنقلابٍ دموي على أبيه عام 1995م. وبإجراء مقارنة بسيطة من حيث متوسط فترة البقاء فى الحكم ومتوسط الأعمار بين مشايخ البترول، تنكشف لنا نتائج مثيرة للإهتمام.
كان للتقاليد والتوازنات العشائرية والعوامل السياسية إلى جانب الروابط الدولية بالطبع تأثيراً فى كبر سن ملوك السعودية بهذا الشكل وعدم إختلال تسلسل الترتيب العمري للسلالة الملكية.
وعند مولد الملك السعودي (الراحل) الذى عاش قرابة قرن من الزمان، كانت الدولة العثمانية قد إنهارت لتوِّها. وتوجهت عشيرة “آل سعود” من شرق الجزيرة العربية –مركز نفوها- غرباً ووسعَّت مناطق سيادتها. وإستولت آنذاك على مكة، وكانت المدينة أيضاً على وشك السقوط فى يدها. بيد أن غريمهم الشريف حسين قد جازف من أجل إقامة حلم الدولة الكبرى بدعمٍ بريطاني متحيناً اللحظة المناسبة التى يتمرد فيها سراً على الدولة العثمانية. حيث كان الإنجليز يعملون مع “آل سعود” وعائلة الشريف حسين فى نفس الوقت عن طريق قنوات مختلفة، فإستغلوا فى البداية عائلة الشريف حسين ضد العثمانيين، ثم إستغلوا آل سعود ضد العثمانيين وكذلك ضد الشريف حسين الذى تمرد على العثمانيين.
تشجيع الإنجليز لحالة الإستياء التى لم تصل بعد لحد التمرد، وحلم التربع على عرش دولة عربية كبرى، قد تحولا إلى ثورة (ضد الدولة العثمانية) يتكون أغلبها من البدو العرب. ومن المؤكد أن إحتمالية خسارة العثمانيين قد شجعت تلك الثورة. ولكن دائماَ ما يتم تجاهل أمر هام فى هذا الصدد؛ وهو أن تلك الثورة –التى قدمها التَّأريخ الإنجليزى بإعتبارها نضال شعب مُستَعبَد ضد حكم عثماني مُستَبِد من أجل الحرية – لم تنشأ فى أيٍ من المدن العربية الكبرى.
وعندما إستولت القوات البريطانية بقيادة الجنرال إدموند اللنبي على دمشق عام 1917م، جرت هناك مراسم إحتفال إستُقبِل فيها الشريف حسين إستقبال الفاتحين. وبدخول الشريف حسين لـ”دمشق” – عاصمة الدولته التى كان يحلم بها – بدأ يرتسم حلم إقامة “الخلافة” وليس الدولة العربية الكبرى فحسب. وكانت تسجيلات الخطب التى يتم إلقائها فى الجامع الأموى فى دمشق -التى كانت تحت وطئة الإحتلال آنذاك- عن ضرورة أن تكون الخلافة للعرب، وإنتهاء شرعية الخلافة العثمانية بعدما حادت عن العدل وظلمت الشعب، تُقدَّم بإستمرار إلى وزارة الخارجية البريطانية. ولازالت تلك الوثائق السرية محفوظة فى الأرشيفات البريطانية. كما كان يتم إبلاغ لندن بالقبض على عملاء للدولة العثمانية وهم يجمعون أموالاً فى جنوب شرقي آسيا وأندونيسيا من أجل مساعدة الخلافة حتى التاريخ الذى تم فيه إلغاء الخلافة فى تركيا.
وبعد تلك الأحداث التى وقعت قبل مولد الملك الراحل بقليل، لوحِظ متأخراً أن الأراضى التى تم إنتزاعها من الدولة العثمانية هامة لدرجةٍ يستحيل التخلي عنها للشريف حسين.
فعندما وُعِدَ الشريف حسين، وُعِدَ الصهاينة أيضاً بإقامة دولة لهم في فلسطين. كما جرى تقسيم الجفرافيا العثمانية-العربية التى سيتم إحتلالها لاحقاً بين فرنسا وبريطانيا.
وفى النهاية، لم يكن مُقدراً أن يُمنح الشريف حسين إمبراطورية عربية كبرى أو خلافة. وتم تمزيق الأراضي التى تم إحتلالها وتوزيعها على أبنائه فى صورة ممالك منفصلة. وكان سيتم تسليم الحجاز -أى البلدات المقدسة فى العالم الإسلامي – لأحد التيارات الهامشية. إلا أن إستيلاء “آل سعود” على مكة والمدينة قد سبب حالةً من الهلع فى العالم الإسلامي. وسادت المخاوف من أن يكون الضريح النبوي الشريف فى خطر تحت سيطرة العقلية الوهَّابيَّة التى تستبيح هدم المقابر والضرائح وتحارب كافة الرموز الدينية مثلما يفعل “داعش” الآن. وبالرغم من أن السعودية قد وعدت بعدم المساس بالروضة المطهرة إلا أن الضرائح الأخرى كانت عرضةً للخطر.
وخلافاً للرؤية النظرية، سادت فى نهاية الأمر بنيةً تقليدية. حتى إتفاقية النفط التى تم إبرامها مع أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. وعُقدت فى القاهرة واحدة من أحرج اللقاءات فى توازنات الحرب الباردة، حيث تم ضمان حكم “آل سعود ” وسيادتهم فى البلاد مقابل ضمان تدفق النفط. ولم يكن ذلك بمنأى عن عدم خروج الحكاية المُسماه “الربيع العربي” من نطاقها المحدد، وعودة الربيع لحالة “ضبط المصنع” (خانة الصفر)، وتحرك السعوديين لتوفير الغطاء اللازم لإنقلابٍ حدد الشئون الداخلية في دولةٍ كبرى كـ”مصر” على نحوٍ منقطع النظير.
فى إطار هذه القصة التى تمتد من الخيمة البدوية الفقيرة إلى رغد العيش الذى وفرته دولارات البترول، كان الملك الراحل ينحدر من نسلٍ عاصر وعاش هذه المسيرة. وكذلك الملك الذى حل محله، عاش وعاصر أيضاً مسيرات التحول من الخيمة إلى الثراء الشديد، من دولة “العشيرة المنسيَّه” إلى مرحلة الدولة التى تمسك فى يدها الورقة الرابحة التى تحدد تطورات العالم الإستراتيجية. وينحدر (الملك الجديد) بخاصة من الجيل الذى عاصر المسيرة التى أقيمت فيها أسس التوازنات النفطية فى العالم كله وليس فى الشرق الأوسط فقط.
حتى الوقت الراهن لم يظهر ملكاً معارضاً يفسد هذا التوازن. أما الملك “فيصل بن عبدالعزيز آل سعود” الذى تعامل بسجيته إبَّان حظر البترول فى عِقد السبعينات، قد لقى مصرعه فى حادث إغتيالٍ مأسوى. والحكاية معروفة؛ يُحكى أن الملك فيصل قال لوزير الخارجية الأمريكي “هنرى كسينجر” –حينما جاءه ليلقنه درساً إبَّان حظر البترول – “بإمكانكم أن تقصفوا آبار البترول. ليس لدينا ما نخسره، لقد جئنا من هذه الخيام، وبإمكاننا العيش فيها مجدداً. ولكن لديكم أنتم الكثير لتخسروه”.
لاشك أن وفاة “فيصل” المأسوية قد أعطت رسالة كافية لـ “آل سعود” وكل مشايخ البترول الآخرين. فلم يقم أحد منهم بإفساد قواعد اللعبة، أو إخلال التوازن النفطى العالمي فى مقابل ثراء شخصي. وإتضح مع مرور الزمن عدم قدرتهم حتى على إستغلال إحتياطاتهم النقدية الهائلة -الموجودة فى البنوك الغربية التى أودعوا فيها عائداتهم من البترول- كما يحلوا لهم.
وفى مقابل نفوذ السعودية ومساحتها وسِعَتها الإقتصادية، فأن ثقلها فى العالم العربي ومكانتها فى النظام العالمي يتضح أكثر عند وضع قدرتها على تحديد السياسة الداخلية في بلدٍ يحذى بمكانة قيادية كـ”مصر” فى الإعتبار.
إلى متى يمكن يواصل النظام السعودى ممارساته المتشددة على الساحتين الإجتماعية والسياسية أمرٌ من الصعب التكهن به. فمن الصعوبة بمكان أن يخاطر ملوك الجيل القديم بترك أماكنهم لأجيال شابة كما حدث فى الإمارات الأصغر حجماً مثل “قطر”. حيث أن الخلل الإجتماعي والإقتصادي المتزايدة، وإستحالة مواصلة العادات الإستهلاكية القديمة، وصمت المعارضة فى الداخل مرهونٌ بالإتفاقات التى تُجرى مع النظام العالمى.
وهنا يأتي السؤال؛ هل يمكن يتواصل هذا التوزيع الغير عادل للدخل فى جفرافيا تمتلك أكبر ثروة تحت الأرض؟ وهل المالكون الحقيقيون لتلك الثروة هم أهل المنطقة أم الأجانب (الغرباء)؟
Editr emreakif on January 29, 2015